فصل: تفسير الآيات (146- 147):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (146- 147):

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)}
قدّم {عَلَى الذين هَادُواْ} على الفعل للدلالة على أن هذا التحريم مختص بهم لا يجاوزهم إلى غيرهم. والذين هادوا: اليهود، ذكر الله ما حرّمه عليهم عقب ذكر ما حرّمه على المسلمين. والظفر: واحد الأظفار، ويجمع أيضاً على أظافير، وزاد الفراء في جموع ظفر: أظافر وأظافرة، وذو الظفر: ما له أصبع من دابة أو طائر، ويدخل فيه الحافر والخف والمخلب، فيتناول الإبل والبقر، والغنم والنعام، والأوز والبط، وكل ما له مخلب من الطير، وتسمية الحافر والخف ظفراً مجاز. والأولى حمل الظفر على ما يصدق عليه اسم الظفر في لغة العرب، لأن هذا التعميم يأباه ما سيأتي من قوله: {وَمِنَ البقر والغنم} فإن كان في لغة العرب بحيث يقال على البقر والغنم كان ذكرهما من بعد تخصيصاً حرّم الله ذلك عليهم عقوبة لهم على ما وقعوا فيه من الظلم كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
قوله: {وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} لا غير هذه المذكورات كلحمهما، والشحوم يدخل فيها الثروب وشحم الكلية. وقيل الثروب جمع ثرب، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش، ثم استثنى الله سبحانه من الشحوم ما حملت ظهورهما من الشحم، فإنه لم يحرمه الله عليهم، و{ما} في موضع نصب على الاستثناء {أَوِ الحوايا} معطوف على ظهورهما، أي إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا، وهي المباعر التي يجتمع البعر فيها، فما حملته من الشحم غير حرام عليهم، وواحدها حاوية، مثل ضاربة وضوارب. وقيل: واحدها حاوياء مثل قاصعاء وقواصع، وقيل حوية: كسفينة وسفائن.
وقال أبو عبيدة: الحوايا ما تحوّى من البطن: أي استدار، وهي متحوية: أي مستديرة. وقيل الحوايا: خزائن اللبن، وهي تتصل بالمباعر. وقيل الحوايا: الأمعاء التي عليها الشحوم.
قوله: {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} معطوف على {ما} في {مَا حَمَلَتْ} كذا قال الكسائي والفراء وثعلب. وقيل: إن الحوايا وما اختلط بعظم معطوفة على الشحوم. والمعنى: حرّمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرّم، ولا وجه لهذا التكلف، ولا موجب له، لأنه يكون المعنى إن الله حرّم عليهم إحدى هذه المذكورات. والمراد بما اختلط بعظم: ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان، ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى التحريم المدلول عليه بحرّمنا، أي ذلك التحريم جزيناهم به بسبب بغيهم. وقيل: إن الإشارة إلى الجزاء المدلول عليه بقوله: {جزيناهم} أي ذلك الجزاء جزيناهم، وهو تحريم ما حرّمه الله عليهم {وِإِنَّا لصادقون} في كل ما نخبر به، ومن جملة ذلك هذا الخبر، وهو موجود عندهم في التوراة، ونصها: حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر، وكل حوت ليس فيه سفاسف أي بياض انتهى.
والضمير في {كَذَّبُوكَ} لليهود أي فإن كذبك اليهود فيما وصفت من تحريم الله عليهم تلك الأشياء {فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة} ومن رحمته حلمه عنكم، وعدم معاجلته لكم بالعقوبة في الدنيا، وهو وإن أمهلكم ورحمكم ف {لا يرد بأسه عن القوم المجرمين} إذا أنزله بهم واستحقوا المعاجلة بالعقوبة. وقيل المراد: لا يردّ بأسه في الآخرة عن القوم المجرمين، والأوّل أولى، فإنه سبحانه قد عاجلهم بعقوبات منها تحريم الطيبات عليهم في الدنيا. وقيل الضمير يعود إلى المشركين الذين قسموا الأنعام إلى تلك الأقسام، وحللوا بعضها وحرّموا بعضها. وقيل المراد: أنه ذو رحمة للمطيعين {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين} ولا مُلجئ لهذا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع، يعني ليس بمشقوق الأصابع.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عنه {كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} قال: البعير والنعامة.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: هو كل شيء لم تنفرج قوائمه من البهائم، وما انفرج أكلته اليهود، قال: انفرجت قوائم الدجاج، والعصافير، فيهود تأكله، ولم ينفرج خفّ البعير ولا النعامة، ولا قائمة الوزينة، فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزينة، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته كذلك، ولا تأكل حمار الوحش.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، في قوله: {وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يعني: ما علق بالظهر من الشحم {أَوِ الحوايا} هي المبعر.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي صالح، في قوله: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} قال: الإلية {أَوِ الحوايا} قال: المبعر {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} قال: الشحم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {أَوِ الحوايا} قال: المباعر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن الضحاك {أَوِ الحوايا} قال: المرائض والمباعر.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} قال: الإلية اختلط شحم الإلية بالعصعص، فهو حلال، وكل شحم القوائم، والجنب، والرأس، والعين، والأذن، يقولون قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم، إنما حرّم عليهم الثرب وشحم الكلية، وكل شيء كان كذلك ليس في عظم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ} قال: اليهود.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ قال: كانت اليهود يقولون: إن ما حرّمه إسرائيل فنحن نحرّمه، فلذلك قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ} الآية.

.تفسير الآيات (148- 150):

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}
أخبر الله عن المشركين أنهم سيقولون هذه المقالة، وهم كفار قريش أو جميع المشركين، يريدون أنه لو شاء الله عدم شركهم ما أشركوا هم ولا آباؤهم، ولا حرّموا شيئاً من الأنعام، كالبحيرة ونحوها، وظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما فعلوه حق، ولو لم يكن حقاً لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك، وعلى تحريم ما لم يحرمه الله رسلاً يأمرونهم بترك الشرك، وبترك التحريم لما لم يحرمه الله، والتحليل لما لم يحلله: {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مثل ما كذب هؤلاء كذب من قبلهم من المشركين أنبياء الله {حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا بأسنا الذي أنزلناه بهم، ثم أمره الله أن يقول لهم: {هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي هل عندكم دليل صحيح بعد من العلم النافع، فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره، والمقصود من هذا التبكيت لهم، لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة، ويقوم به البرهان، ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم، وأنهم إنما يتبعون الظنون، أي ما يتبعون إلا الظنّ الذي هو محل الخطأ، ومكان الجهل {وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} أي تتوهمون مجرّد توهم فقط كما يتوهم الخارص، وقد سبق تحقيقه، ثم أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أن لله الحجة البالغة على الناس، أي التي تنقطع عندها معاذيرهم، وتبطل شبههم، وظنونهم وتوهماتهم. والمراد بها الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، وما جاءوا به من المعجزات {فَلَوْ شَاء} هدايتكم جميعاً {لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ولكنه لم يشأ ذلك، ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 107] و{مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الأنعام: 111] ومثله كثير. ثم أمره الله أن يقول لهؤلاء المشركين {هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} أي هاتوهم وأحضرهم، وهو اسم فعل يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والمجموع عند أهل الحجاز، وأهل نجد يقولون: هلما هلمي هلموا، فينطقون به كما ينطقون بسائر الأفعال، وبلغة أهل الحجاز نزل القرآن، ومنه قوله تعالى: {والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18] والأصل عند الخليل (ها) ضُمَّت إليها (لم)، وقال غيره: أصلها (هل) زيدت عليها الميم، وفي كتاب العين للخليل: أن أصلها هل أؤم، أي هل أقصدك، ثم كثر استعمالهم لها، وهذا أيضاً من باب التبكيت لهم، حيث يأمرهم بإحضار الشهود على أن الله حرّم تلك الأشياء، مع علمه أن لا شهود لهم {فَإِن شَهِدُواْ} لهم بغير علم، بل مجازفة وتعصب {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي فلا تصدقهم ولا تسلم لهم، فإنهم كاذبون جاهلون، وشهادتهم باطلة {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} أي ولا تتبع أهواءهم، فإنهم رأس المكذبين بآياتنا.
قوله: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} معطوف على الموصول، أي لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، وأهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة {وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عدلاً من مخلوقاته كالأوثان، والجملة إما في محل نصب على الحال، أو معطوفة على لا يؤمنون.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن مجاهد، في قوله: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} قال: هذا قول قريش إن الله حرم هذا، أي البحيرة والسائبة، والوصيلة والحام.
وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة: {قُل فلِلَّهِ الحجة البالغة} قال: السلطان.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس أنه قيل له إن ناساً يقولون ليس الشرّ بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} إلى قوله: {فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} قال ابن عباس: والعجز والكيس من القدر.
وأخرج أبو الشيخ، عن عليّ بن زيد، قال: انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السديّ، في قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} قال: أروني شهداءكم.

.تفسير الآيات (151- 153):

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}
قوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ} أي تقدّموا. قال ابن الشجري: إن المأمور بالتقدّم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعداً، فقيل له تعال، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدّم، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي. وهكذا قال الزمخشري في الكشاف: إنه من الخاص الذي صار عاماً، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم كثروا واتسع فيه حتى عمّ.
قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} {أتل} جواب الأمر، و{ما} موصولة في محل نصب به، أي أتل الذين حرّمه ربكم عليكم. والمراد من تلاوة ما حرّم الله تلاوة الآيات المشتملة عليه، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية، أي أتل تحريم ربكم. والمعنى: ما اشتمل على التحريم. قيل ويجوز أن تكون ما استفهامية أي أتل أي شيء حرّم ربكم، على جعل التلاوة بمعنى القول، وهو ضعيف جداً، و{عليكم} أن تعلق ب {أتل} فالمعنى: أتل عليكم الذي حرّم ربكم، وإن تعلق ب {حرّم} فالمعنى أتل الذي حرّم ربكم عليكم، وهذا أولى، لأن المقام مقام بيان ما هو محرّم عليكم لا مقام بيان ما هو محرّم مطلقاً وقيل: إن عليكم للإغراء ولا تعلق لها بما قبلها. والمعنى عليكم أن لا تشركوا إلى آخره، أي الزموا ذلك كقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] وهو أضعف مما قبله، وأن في {أَن لا تُشْرِكُواْ} مفسرة لفعل التلاوة، وقال النحاس: يجوز أن تكون في موضع نصب بدلاً من {ما} أي أتل عليكم تحريم الإشراك. وقيل: يجوز أن يكون في محل رفع بتقدير مبتدأ، أي المتلوّ أن لا تشركوا، و{شيئاً} مفعول أو مصدر أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، أو شيئاً من الإشراك. قوله: {وبالوالدين إحسانا} أي أحسنوا بهما إحساناً، والإحسان إليهما البرّ بهما، وامتثال أمرهما ونهيهما.
وقد تقدّم الكلام على هذا.
قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مّنْ إملاق} لما ذكر حق الوالدين على الأولاد، ذكر حق الأولاد على الوالدين، وهو أن لا يقتلوهم من أجل إملاق. والإملاق الفقر، فقد كانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكر والإناث خشية الإملاق، وتفعله بالإناث خاصة خشية العار، وحكى النقاش عن مؤرّج أن الإملاق الجوع بلغة لخم، وذكر منذر بن سعيد البلوطي: أن الإملاق الإنفاق. يقال أملق ماله: بمعنى أنفقه. والمعنى الأوّل هو الذي أطبق عليه أئمة اللغة، وأئمة التفسير ها هنا. {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش} أي المعاصي، ومنه {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] وما في {مَا ظَهَرَ} بدل من الفواحش، وكذا ما بطن. والمراد ب {ما ظهر}: ما أعلن به منها، و{ما بطن}: ما أسرّ.
وقد تقدّم {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس} اللام في النفس للجنس، و{التى حَرَّمَ الله} صفة للنفس، أي لا تقتلوا شيئاً من الأنفس التي حرّمها الله {إِلاَّ بالحق} أي إلا بما يوجبه الحق، والاستثناء مفرّغ، أي لا تقتلوه في حال من الأحوال إلا في حال الحق، أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، ومن الحق قتلها قصاصاً، وقتلها بسبب زنا المحصن، وقتلها بسبب الردّة، ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشرع بها، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى ما تقدّم مما تلاه عليهم، وهو مبتدأ {وَوَصَاكم بِهِ} خبره: أي أمركم به، وأوجبه عليكم {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إلا بالخصلة {التى هي أَحْسَنُ} من غيرها، وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته، فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله وقيل: المراد بالتي هي أحسن التجارة {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي إلى غاية هي أن يبلغ اليتيم أشدّه، فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله، كما قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} [النساء: 6].
واختلف أهل العلم في الأشد، فقال أهل المدينة: بلوغه وإيناس رشده.
وقال أبو حنيفة: خمس وعشرون سنة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو البلوغ. وقيل: إنه انتهاء الكهولة، ومنه قول سحيم الرباحي:
أخو الخمسين مجتمع أشدي ** ويحديني مداورة الشؤون

والأولى في تحقيق بلوغ الأشد أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء، لا مسلك أهل السفه والتبذير، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} [النساء: 6] فجعل بلوغ النكاح، وهو بلوغ سنّ التكليف مقيداً بإيناس الرشد، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا، والأشد واحد لا جمع له، وقيل: واحده شدّ كفلس وأفلس، وأصله من شدّ النهار، أي ارتفع.
وقال سيبويه: واحده شدة. قال الجوهري: وهو حسن في المعنى، لأنه يقال بلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل.
قوله: {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء {لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي إلا طاقتها في كل تكليف من التكاليف، ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن، فلا يخاطب المتولي لهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} أي إذا قلتم بقول في خير أو شهادة، أو جرح أو تعديل، فاعدلوا فيه، وتحرّوا الصواب، ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد، ولا تميلوا إلى صديق، ولا على عدو، بل سوّوا بين الناس، فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به، والضمير في {وَلَوْ كَانَ} راجع إلى ما يفيده {وإذا قلتم} فإنه لابد للقول من مقول فيه، أو مقول له، أي ولو كان المقول فيه، أو المقول له {ذَا قربى} أي صاحب قرابة لكم.
وقيل إن المعنى: ولو كان الحق على مثل قراباتكم والأوّل أولى، ومثل هذه الآية قوله: {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين} [النساء: 135].
قوله: {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} أي أوفوا بكل عهد عهده الله إليكم، ومن جملة ما عهده إليكم، ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام، ويجوز أن يراد به كل عهد، ولو كان بين المخلوقين، لأن الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوّغاً لإضافته إليه. والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى ما تقدّم ذكره {وصاكم بِهِ} أمركم به أمراً مؤكداً {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتتعظون بذلك.
قوله: {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا} أن في موضع نصب، أي واتل أن هذا صراطي، قاله الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضاً، أي وصاكم به، وبأن هذا.
وقال الخليل وسيبويه: إن التقدير ولأن هذا صراطي مستقيماً، كما في قوله سبحانه: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} [الجن: 18] وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {وَإِنَّ هذا} بكسر الهمزة على الاستئناف، والتقدير: الذي ذكر في هذه الآيات صراطي. وقرأ ابن أبي إسحاق، ويعقوب {وَإِن هذا صراطي} بالتخفيف على تقدير ضمير الشأن. وقرأ الأعمش {وهذا صراطي} وفي مصحف عبد الله بن مسعود {وهذا صراط رَبُّكُمْ} وفي مصحف أبيّ {وهذا صراط رَبّكَ} والصراط: الطريق، وهو طريق الإسلام، ونصب مستقيماً على الحال، والمستقيم المستوي الذي لا اعوجاج فيه، ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع سائر السبل، أي الأديان المتباينة طرقها {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} أي تميل بكم {عَن سَبِيلِهِ} أي عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام. قال ابن عطية: وهذه السبل تعمّ اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل، وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد. والإشارة ب {ذلكم} إلى ما تقدّم وهو مبتدأ وخبره {وصاكم بِهِ} أي أكد عليكم الوصية به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ما نهاكم عنه.
وقد أخرج الترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟» ثم تلا: {قُلْ تَعَالَوْاْ} إلى ثلاث آيات، ثم قال: «فمن وفَّى بهنّ فأجره على الله ومن انتقص منهنّ شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن الضريس، وابن المنذر، عن كعب الأحبار قال: أوّل ما أنزل في التوراة عشر آيات، وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخرها.
وأخرج أبو الشيخ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: سمع كعب رجلاً يقرأ: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} فقال كعب: والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة:
بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الآيات انتهى.
قلت: هي الوصايا العشر التي في التوراة، وأوّلها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك إله غيري. ومنها: أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بنت قريبك، ولا تشته امرأة قريبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئاً مما لقريبك، فلعل مراد كعب الأحبار هذا، ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم. وأهل الإنجيل في أوّل إنجيلهم، وهي مكتوبة في لوحين، وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن قتادة {وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مّنْ إملاق} قال: من خشية الفاقة، قال: وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة عليها والسبي {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: سرّها وعلانيتها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس {وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مّنْ إملاق} قال: خشية الفقر {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السرّ، ويستقبحونه في العلانية، فحرّم الله الزنا في السر والعلانية.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا} قال: اعلموا أن السبيل سبيل واحد، جماعه الهدى ومصيره الجنة، وأن إبليس اشترع سبلاً متفرقة، جماعه الضلالة ومصيرها النار.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والبزار، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن مسعود، قال: خط رسول الله خطاً بيده ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط، وعن شماله، ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}».
وأخرج أحمد، وابن ماجه، وابن مردويه، من حديث جابر نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن مردويه، عن ابن مسعود أن رجلاً سأله: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمداً صلى الله عليه وسلم، في أدناه وطرفه الجنة، وعن يمينه جواد وعن شماله جواد، وثم رجال يدعون من مرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} قال: الضلالات.